عن السيد الجديد والمرأة المصرية
السيسي يمتطي حصاناً أبيض ويرتدي زياً نصفه عسكري ونصفه مدني، ويحمل أمامه امرأة هي مصر، تضع قناعا فرعونياً وترتدي فستان الزفاف الأبيض. وفي الخلفية، الأهرامات الثلاثة، يحمل الأول صورة عبد الناصر والثاني صورة السادات والثالث صورة السيسي، بينما يختفي مبارك من تاريخ الأمجاد المصرية. وفي الخلفية العامة صورة بانورامية لملاحم الجيش المصري. وعلى جنبات اللوحة إعلانات: «عروسة قمر» و«عريس دكر»، وفي الأسفل «هي ده مصر يا أمريكان يا غجر». شاع هذا الرسم لفترة على لافتات كبيرة في العديد من الشوارع. وهو يعبر عن واقع اللحظة البائسة، وعن الحلم الذي يداعب المخيلة الشعبية لكثير من المصريين. تحمل الصورةُ رموزَ ودلالاتِ الخطابِ الذي يدور حول السيسي ومؤسسة الجيش. فهو يربط الذكورة والفحولة بالقيادة والزي العسكري، ويرى في السيسي فارسا، أما مصر هنا فعروسة لفحل يستحق أن ينالها. ويأتي الملمح الفرعوني في اللوحة (القناع لتوت عنخ آمون وليس لنفرتيتي مثلا!) ليعطيها عمقاً تاريخياً/هوياتياً، بينما هو يرسخ أزمة الهوية القائمة.
مخزون دلالي مختلط
في حربها ضد الإسلام السياسي في جانب والحركة الثورية الديموقراطية في الجانب الآخر، تستدعي الوطنية المصرية كل ما لديها من مخزون دلالي ورمزي، ومنه المجد الضارب في عمق التاريخ في مواجهة انكسار الحاضر. والثقافة الفرعونية كما هو معروف هي ترسيخ لتأليه الحاكم. كما لا تنسى تلك الوطنية المؤامرة الكونية على مصر العظيمة والعداء للغرب متمثلاً في أميركا. وهو ما يتشكل حوله حالياً خطاب المؤسسة في مواجهتها للهيمنة الأميركية التي ترى أنها تدعم مرسي والإسلام السياسي، وتسعى لتفكيك وحدة الدولة المصرية كما فعلت في العراق، مذكِّرة بأن جيش مصر هو آخر الجيوش العربية في المنطقة. ومنذ اليوم الأول، اتُهمت الثورة بالسعي لتفكيك الدولة المصرية وتقسيم الأرض. والاتهام كان يشير إلى محورين: الأول هو تفكيك السيادة المصرية على الأرض والدولة بمعناها الكلاسيكي «إقليم وسيادة وشعب»، والثاني تفكيك الدولة كجهاز مهيمن يحتكر الحق في ممارسة العنف ويهيمن على حياة الأفراد، وقدسيته وهيبته أهم من حرية الفرد وتطلعاته، وأهم من الجماعات وآمالها، وأهم من الحقوق وشرعياتها. فالجميع قربان في محراب الدولة المتعالي. وقد تمّ تخوين الثوار واتهامهم بالعمالة. ومع تصرفات مرسي التي اتسمت بالرعونة والحمق، بالأخص في العلاقة مع دول الحدود مثل قطاع غزه، وقضايا حلايب وشلاتين، وجد هذا الخطاب الوطني أرضية أكثر خصوبة وتفاعلاً، فسهّل اتهام مرسي بالخيانة العظمى والتفريط بالأرض المصرية. ويترافق هذا الخطاب بشكل عام مع مركزية مصر حول القاهرة والدلتا وتقاليد «عداء» مجتمعي وثقافي وسياسي لأبناء الهوامش الجغرافية، بالأخص عند مطالبتهم بحقوقهم، مثل حق العودة للنوبيين، وحقوق تملك الأرض لأبناء شمال ووسط سيناء، وحقوق تدوين اللغة والثقافة لأهالي سيوة الأمازيغ.
ولأن الوطنية المصرية في صورتها التي أنتجها خطاب مجلس قيادة الثورة في 1952، نابعة في الأصل من خليط فيه تأثير لجماعة الإخوان المسلمين وحزب مصر الفتاة والثورة العرابية، فهي تستطيع هضم الإسلام تحت كنفها، حيث المكون الإسلامي دائم الحضور فيها كعامل إيديولوجي رئيسي في الخطاب والمفردات. ففي خطاب الجيش المصري مزج بين الوطنية والدين كمكونين رئيسيين لممارساته وشرعية وجوده. ولهذا تتسم هذه المؤسسة بطابع شديد المحافظة. ويقوم الجيش بـ«علمنة» الدين بداخله، ومن ثم يحتوي الدين ولا يحتويه الدين. وبهذا يمزج الجيش بين نوعين من السلطة ومن الألوهية: الأولى ألوهية الدين والثانية ألوهية الدولة نفسها. ويجب فهم خطاب السيسي نفسه ضمن تلك المنظومة من التقاليد الخطابية والقيمية. فأحاديث الرجل تعتد بالشرعية الدينية وتزايد على الإسلاميين أنفسهم. كما وجدت الدولة من يشرعن لها الإيغال في القتل تحت زعم أن المعارضة «خوارج»، وهو ما تجلى بوضوح في خطاب الشيخ علي جمعة: الأزهري الخلفية والمنبع والنشأة.
«الجيش مصنع الرجال»
تحتكر المؤسسة العسكرية الذكورة والفحولة تحت شعار «الجيش مصنع الرجال». عموماً، وليس في مصر فقط، يثير الزي العسكري هوساً جنسياً لما يمثله رجاله من سلطة وقوة وطاقة جسدية، ويرمز الى الفحولة بسبب قسوة التدريب والقتال. وهناك ربط بين الدور الحمائي والرجولة والذكورة... وخطاب مؤسسة الجيش في مصر قائم على كل من الوصاية والحماية والأبوية. وقد عبر السيسي نفسه عن ذلك بوضوح حينما قال «إحنا منبقاش رجالة لو سبنا حد يؤذي الشعب المصري». وهكذا فخطاب الجيش يجد لنفسه أرضية خصبة للتمفصل مع 1 - التطلع الذكوري المحافظ للسيادة والهيمنة، 2 - الحماية وتوفير الأمن خصوصا في ظروف انعدام الأمن والاستقرار ونمو أعمال البلطجة في مصر قبل وبعد الثورة، 3 - محاولة استعادة الفحولة المصرية، مع العلم أننا بصدد واحد من أكثر المجتمعات تعاطياً للمنشطات الجنسية. ويتناغم هذا كله مع عوامل التنشئة المجتمعية التي ظلت تمجد الزي العسكري وتربطه بخصائص الرقي الاجتماعي والسطوة. وهناك تسابق شديد لدخول الكليات العسكرية.
«كلنا إيد واحدة»
وتجدر الإشارة إلى أن المؤسسة العسكرية لعبت، بكل ما أوتيت من قوة رمزية وإيديولوجية، على موضوعة الانقسام المجتمعي والسياسي. وهي خلقت صورة ذهنية، أو بالأحرى استدعت من مخزون الناصرية عوامل الوحدة والإجماع، واعتبار أي اختلاف سياسي وتنازع ديموقراطي مساً حقيقياً بسيادة الدولة والشعب، لأن الشعب في تلك الرؤية (التي إذا ما مدّت أصبحت فاشية خالصة)، هو واحد موحد مجتمع خلف قيادته، وأن أي اختلاف هو شق للصف الوطني وعمالة للخارج المتآمر. وهو نفسه الخطاب الإسلامي، ولكن الفارق الرئيسي أن الأول يتمحور حول الجماعة الوطنية والثاني حول الجماعة المسلمة. وبالفعل يحاول السيسي من خلال الاستدعاء الدائم للمواطنين خلق حالة من الوحدة السياسية التي تحاول الإمساك بكل من الدولة والشعب والحركة، ومن ثم السيطرة على أي اختلاف أو تنوع. فالصورة الوطنية الأصيلة يجب تنقيحها من أي شوائب تتحدث عن الاختلاف. وأي خطاب هوياتي لا يحتمل التعددية.
فحولة مفقودة ورقّة منشودة
لحضور السيسي الرمزي والجسدي «كدكر» في المجال العام وعند قطاعات من النساء والرجال أسباب عدة. وقد أصبح الأمر من الفجاجة حتى وصل إلى أن يتحدث حازم الببلاوي (الذي كان وقتها رئيس وزراء مصر) في مؤتمر دافوس الاقتصادي عن جاذبية المشير السيسي لنساء مصر! وكانت تُسمع، في التظاهرات وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، أحاديث لنساء ناضجات في السن يتطوعن واحدة تلو الأخرى ليكن زوجاته حتى تنتهي مساحة الأربع زوجات فندخل في حيز مُلك اليمين! وأخيرا ورد ذلك بأقلام صحفيات.
ولكن، واستدراكاً، فنساء مصر لسن كتلة موحدة. هناك قطاع كبير منهن يرين في السيسي وخطابه عبثاً واستخفافاً بعقول القوم وانحطاطاً ذكورياً. وهناك أخريات لا يرين في الرجل أي مقومات جاذبية بالمعنى الجنسي! وهناك إسلاميات يرينه كقاتل وسفاح. كما أنه ما زال كثير من رجال مصر يتحلى بالعقل ولم ينزلق به الأمر إلى مستنقع السفه والانحطاط والسلطوية والهوس حول الفحولة والذكورة. وعلى ذلك، يتسم خطاب السيسي بالحسم والرقة في الوقت نفسه، ويستخدم نبرة صوت هادئة. وهو الأول في موقعه الذي يوجه خطابا للمرأة المصرية يحمل عوامل التبجيل والتوقير والاحتياج. ففي الخطاب الذي دعا فيه السيسي جموع المصريين للنزول للاستفتاء على الدستور، ركز بشدة على احتياجه للمرأة وأنها العامل الحاسم في الحياة المصرية. واتسمت نبرة صوته بالرقة في هذا المقطع، كما تجلت على ملامح وجهه أيضاً، في نظرة استجداء ممزوجة بالحب والمودة. وقد تكون كل هذه العوامل مجرد خداع وتمويه، إلا أنها تظل قادرة على مداعبة الخيال الجمعي، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار منظومة الخطاب السائدة في المجتمع المصري حول المرأة، التي تمتلئ بالتحقير والتنكيل والازدراء، في الوقت نفسه الذي تتسم فيه بالعجز وعدم تقديم أي شيء للنساء.
ومعلوم أن واقع المرأة المصرية في الشرائح الفقيرة والوسطى والدنيا هو واقع تنكيل بها واستغلال لها. فكثير من الرجال لا يعملون بينما تعيل المرأة الأسرة، ثم يأتي الرجل، لكونه ذكراً بحكم الولادة، ليستبيح مالها وجسدها وينكل بها أمام الجميع. بينما خطاب السيسي يفارق هنا منظومة السلطة القائمة (السلطة الذكورية، وسلطة مؤسسات الدولة، والخطاب الديني التهميشي للمرأة) في الوقت نفسه الذي يمفصل معاً مجموعة من القيم الجمعية حول الرجولة والفحولة وتطلع قطاع من النساء إلى رجل قوي الشكيمة رقيق الكلمة والصوت، ولا يتورع عن إظهار احتياجه للمرأة بوضوح وثقة.
[ينشر ضمن اتقاقية شراكة وتعاون بين جدلية و"السفير العربي"]